سأل الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر سؤالاً مشروعاً "هل العرب يريدون الحرب أم سيحاربون بأخر جندي مصري".. ذلك المقطع المجتز جاء في سياق لقاء الزعيم بالمبعوثين المصريين بالخارج في الخامس عشر من مايو 1970، ثم عاود الزعيم ذات السؤال في اتصال هاتفي مع العقيد معمر القذافي في أغسطس من ذات العام.
المقطعان بالصوت والصورة تم بثهما على قناة "ناصر تي في" التي يشرف عليها أبناء الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر.. لكن السؤال: لماذا ذلك المقطع الآن؟ ولماذا تم بتر الحوار التليفوني والتليفزيوني وكأنه تنازل عن القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين، وأنه مهتم باستعادة الأراضي المصرية المحتلة بالسلام دون دماء؟
اللافت أن قناتي العربية والعربية الحدث تناولتا المقطع في أكثر من برنامج، وحاولتا تصوير الأمر وكأن الزعيم قد بلغ سن الرشد السياسي بقبوله السلام مع إسرائيل، وبذلك هو إمام الصهيونية العربية والمعروفة إعلامياً بالإبراهيمية، وعرابها، وقطعاً أنقذته وفاته من التورط في الانبطاح.
علامات استفهام كثيرة تبحث عن إجابة، وتبريرات أكثر للمقطع المبتور.
أنصار الزعيم بالوطن العربي يرونه حملة جديدة لتشويه صورته، وجرح هيبته، التي اعتادت - منذ انقلاب 15 مايو 1971، والملقبة في كتب التاريخ المدرسي بثورة التصحيح - على حملات لتشويه صورته بأنه أساس كل مشاكل مصر، حتى ديونها، علماً بأنه عند رحيله في 28 سبتمبر 1970، كانت ديون مصر لا تتعدى 2.7 مليار دولار (1.7 للاتحاد السوفيتي الذي شطب 50% منها ودخل شريكا بالباقي في بعض المشروعات التنموية كمجمع الألومنيوم بنجع حمادي، و500 مليون لأمريكا، و200 مليون لفرنسا) وكانت مصر في عهده تسدد ديونها نقداً وبمنتجات صنعت في مصر!!
عبد الناصر قام ببناء 8 ألاف مدرسة ابتدائي وإعدادي، بخلاف الثانوي، ودعم التعليم الثانوي الفني الصناعي والزراعي.. وترك لنا 1200 مصنع كبير ومتوسط (من بينها الحديد والصلب، ومصانع الغزل والنسيج بالمحافظات، وغيرها) ولا ننسى السد العالي الذي بلغت تكلفته مليار دولار، ساهم الاتحاد السوفيتي بـ 400 مليون دولار من التكاليف.. وفي عهده زادت الرقعة الزراعية من 5.8 مليون فدان إلى 7.2 مليون فدان، وبالتالي وضع عبد الناصر أسس بناء دولة صناعية زراعية منتجة، وحجم الديون مقارنة بالمشاريع التي تم تنفيذها وبناء الجيش والحروب كان مقبولاً، ولم تكن مصر في خطر الإفلاس.
الوقت هنا ليس للحديث عن إنجازات ناصر فهي طويلة وممتدة، ولكن السؤال هل المقطع محاولة جديدة للتشويه؟
سيفشلون مثل كل مرة ـ هكذا قالت صديقتي، التي لا تتعاطى السياسة، ولا هي ناصرية ولا هي صحفية ـ في كل حملة ضد عبد الناصر يخرج بطلاً، ويعيش ناصر ويموت من حاولوا تشويهه وهم أحياء، يعيش عبد الناصر لأنه فكرة، والفكرة لا تموت، وعبد الناصر ـ والحديث لازال للصديقة ـ تأثيره ليس في مصر والدول العربية فقط، بل امتد لآسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وهو يظل رمزاً للوطنية وحرية الدول.
ولكن السؤال الذي لا يموت، لماذا ذلك المقطع المبتور في ذلك التوقيت مع الاهتمام الإعلامي لآهل الإبراهيمية، ونحن على مشارف زيارة مرتقبة للسيد ترامب، الذي من المقرر أن يصل للسعودية ويزور قطر والإمارات خلال الفترة من 13ـ 16 مايو الجاري، هل هناك أمر ما خاص بقطاع غزة والضفة الغربية، وسوريا، ولبنان، واليمن؟
الاحتلال الإسرائيلي يقصف سوريا ولبنان يومياً وبشدة، وينفذ عمليات اغتيال لقادة المقاومة في لبنان بالطيران المسير، وقرر حشد 60 ألف جندي من الاحتياط على حدودهما، كما قرر توسيع العمليات العسكرية بقطاع غزة، عقب انتهاء زيارة ترامب للمنطقة.. ونعلم أن الاحتلال يطمح لتهجير الشعب الفلسطيني لجنوبي لبنان وسوريا، وأهل غزة لمصر.. فهل اقتربت ساعة الصفر لذلك؟
سؤال عبد الناصر عن رغبة العرب في خوض الحرب بأخر جندي مصري، سؤال يعكس المزاج المصري منذ الستينيات وحتى وقتنا الحالي، الجميع يسعى لخوض الحرب وتحرير فلسطين بالمصريين، على صفحات التواصل الاجتماعي منذ اندلاع طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، يسألون أين خير أجناد الأرض.. أين جيش مسافة السكة؟ وكأن الدول العربية خلت من الجيوش ولا يوجد إلا الجيش المصري، الذي إذا خاض المعركة لن يجد مساندة إلا من المقاومة العربية في فلسطين، واليمن، ولبنان، والعراق.. ولو أن تلك الدول ترغب في دعم الشعب الفلسطيني وقضيته ما وقفت ضد المقاومة وحاولت وتسعى لقتلها.. وتتغنى بضرورة تسليم سلاح المقاومة لسلطات جاءت بها الإبراهيمية والصهيونية الأمريكية الأوروبية، وأيضاً كانت دافعت عن الخطة المصرية لإعمار غزة وساندتها بقوة الفعل لا القول، خاصة وأنها خطة تجعل من قطاع غزة منطقة صناعية وتجارية وسياحية، وتزيد من مساحة القطاع ببناء مدينة أخرى في البحر المتوسط لتوسعة القطاع، ولو تم ذلك فإن الشعب الفلسطيني بالقطاع لن يسمح للمقاومة أو غيرها بهدم تلك المكاسب.
ويبقى السؤال لماذا تذكرت قناة "ناصر تي في" تلك الكلمات في الوقت الحالي، ولماذا إثارة الضجيج حولها، علماً بأن عبد الناصر له خطب كثيرة تناولت كثيرا من الأمور منها على سبيل المثال لا الحصر، مصرية جزيرتي تيران وصنافير، اللتين تتسرب أخبار بشأن موافقة السعودية على إقامة قواعد عسكرية أمريكية بهما..
التخمينات كثيرة، ومتعددة الأوجه والاحتمالات.. ولكن يبقى السؤال يبحث عن إجابة، والحكاية فيها إن..
------------------------------
بقلم: محمد الضبع